تخيل معنا مواطناً يعيش بدون مياه ولا كهرباء ولا حتى صرف صحي بين صخور الجبل وأدخنة المصانع المسرطنة! مواطن لا يحصل سوى على قوت يومه الذي يكفي بالكاد أسرته وأهله؛ ليفاجأ بعد ذلك كله -وكأن القدر استكثر عليه هذه الحياة "الرغدة"!- فانهارت الصخور على رأسه ليلقى حتفه؛ لعله يرتاح من هذه الدنيا الشاقة!
المشهد كان بحق مأسوياً، ولا أقصد هنا مشهد ركام البيوت التي اندثرت تحت صخور الجبل، وإنما أقصد البيوت أو مساكن الإيواء – لو أردت الدقة– التي يسكنها على ما يبدو آدميون يحملون هوية تثبت أنهم مصريون! وهذه وحدها هي المأساة الأخرى.
ثورة الأهالي الذين فقدوا ذويهم كانت أكبر من أن توصف، وهي ما تجلت في الدعوات بالويل والثبور على المسئولين، خصوصاً بعد أن أعلن الدكتور "عبد العظيم وزير" محافظ القاهرة قيام المحافظة بتوفير وحدة سكنية لكل أسرة من متضرري حادث الدويقة في منطقة منشأة ناصر والتي تضم مشروع بناء 10 آلاف وحدة سكنية تم تسليم عدد كبير منها حوالي 6 آلاف وحدة وباقي 4 آلاف وحدة سيتم الانتهاء منها قريباً، إضافة إلى قرار المحافظة صرف تعويضات للأسر المتضررة وفقاً لحالات الإصابة أو الوفاة، حتى أن الأهالي صرخوا "يا حكومة مش بتيجي إلا بعد خراب مالطة".
"بص وطل" تجولت بين المساكن الموجودة ببطن الجبل، والتقت ببعض الأهالي الذي كانوا في حالة لا يرثى لها، فقالت "سيدة موسى" – 38 سنة وأرملة "إحنا عايشيين عيشة أسوأ من المقابر وهما منهم لله ولا حاسين بأي حاجة، والمحافظ زارنا بدل المرة عشرة ووعدنا بشقة تلمنا أنا وعيالي ولا حد سأل فينا"..
وعن كيفية حصولهم على الشقة التي يعيشون فيها الآن قالت "سيدة" لقد حصلنا عليها "بيع وشراء" من الأهالي بحوالي 5000 جنيه.. وأكثر من مرة تعدنا الحكومة باستبدالها بأخرى في مشروع السيدة "سوزان مبارك"، ولكن لم يعرنا أحد اهتماماً.
حقاً الوضع مزرٍ للغاية هناك في الجبل، فلا يجد السكان كهرباء للإنارة، ويشترون الماء باللتر –بجنيه واحد– كما يقول عم "سيد ثابت" أحد سكان الدويقة، كما أن رائحة الصرف الصحي العفنة لا يطيقها أحد حتى أن الجبل نفسه انهار أمامها ليسقط على السكان.
أما شيماء –طفلة– لا يزيد عمرها على 3 سنوات أخذت تبكي كثيراً على كتف خالتها؛ لأنها فقدت أمها تحت الأنقاض، ولم يهب أحد لنجدتها، وهو ما علقت عليه خالتها بالقول "يعني البت الصغيرة دي مش حرام تتحرم من أمها وهي في السن ده".
وقال عم محمد –حداد– عيالنا محرومون من التعليم ومن الهوا النظيف ومن كل حاجة ولا كأننا بني آدمين والله حرام، وبسؤاله عما يجبره على العيش بهذه الطريقة رد بالقول "اللي رماك على المر اللي أمر منه" مضيفاً أن معظم القاطنين بهذه المنطقة –غير متعلمين– ويحصلون على قوت يوم بيوم ولا آمال أو طموحات لديهم سوى العيش عيشة كريمة بدلاً من عيشة "الحيوانات" التي يعيشونها –على حد تعبيره-!
البيوت داخل الجبال ملأتها الشقوق وأحاطت بها كل أنواع الحشرات التي يمكن أن تخطر على بال بشر علاوة على وجود الحيات والعقارب بكثرة على سطح الجبل والتي تهاجم الأهالي من حين لآخر بحسب تأكيداتهم. يذكر أنه منذ حوالي 15 عاماً انهارت كتلة من هضبة المقطم تزن 3000 طن ودفنت تحتها 50 شخصاً على الأقل.
وكان المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية قد أعد تقريراً بالتعاون مع هيئة المساحة الجيولوجية تناول دراسة حول جيولوجية منطقة المقطم والطبيعة الصخرية لها ومعالجة الميول الموجودة فيها، وأشار إلى أن تلك الدراسة أوصت بضرورة إخلاء المنازل سواء على الأسطح الجانبية أو أسفل الجبل، موضحاً أن هذه النتائج تم رفعها للمسئولين بمحافظة القاهرة في 1994 ولكن جهود المحافظة فشلت، حيث تقوم بإخلاء هذه المنازل نهاراً ويعود إليها قاطنوها ليلاً، مؤكداً أهمية إخلاء هذه المنازل تماماً حفاظاً على أرواح الأفراد وإيقاف عملية البناء العشوائي.
ومن جهة أخرى، أصدر مركز "الحق في السكن" بياناً أمس حصلت "بص وطل" على نسخة منه استنكر فيه السياسة العشوائية للإسكان، وقالت مديرة المركز في تصريحات صحفية أمس - هناك المئات من الأسر التي تنتظر دورها في المساكن التي أقامتها الحكومة بمنحة من صندوق أبو ظبي، وكذلك من هيئة الـ GTZ الألمانية، ورغم توافر هذه المساكن، إلا أن هناك تباطؤاً شديداً من الجهات التنفيذية في منحها للمواطنين، حيث تذهب لمن لا يستحقونها.
ويقطن منطقة منشأة ناصر أكثر من نصف مليون نسمة، سكانها يعدون الأكثر فقراً في القاهرة، وهي منطقة قديمة منحوتة منازلها في الجبل، وكانت ملجأ لكثير من الوافدين المعدمين من خارج القاهرة، ويمارس معظم سكانها أعمال جمع المخلفات لإعادة تدويرها.
وقد سبق وأعطى الرئيس "مبارك" تعليماته بإزالة المنطقة بالكامل وبنائها من جديد بعد حادثة وقعت في تسعينيات القرن الماضي ، إلا أنه تم بعد ذلك تطوير جزء من هذه المنطقة وإزالة وإعادة بناء الجزء الآخر المتمثل في منطقة الدويقة، بحجة عدم توافر الإمكانيات المادية.
ولم يحصل العديد من السكان على مسكن بديل بعد هدم منازلهم، وحصل بعضهم على مساكن ليست في نفس المكان، بل في أماكن أخرى وسط الصحراء مثل "مدينة بدر" البعيدة عن أماكن عملهم، الأمر الذي جعل أهالي الدويقة يعيشون في قلق دائم من فقد منازلهم البسيطة دون الحصول على مسكن بديل، كما أن عمليات البنية التحتية التي تجري في المنطقة كانت وما زالت تهدد الكثير من هذه المنازل بالانهيار.
وقالت بعض المنظمات المعنية بالحفاظ على البيئة بأن الدويقة من أكثر المناطق تلويثاً للبيئة بالقاهرة، وكان حاكم أبو ظبي بدولة الإمارات قد منح -منذ عدة سنوات- 180 مليون دولار صادرة عن صندوق أبو ظبي لبناء 1000 وحدة لقاطني المنطقة، وهو ما لم ينفذ حتى كتابة هذه السطور!