ومن شروط التوبة: تدارُك ما يُمْكِنُ تدارُكه مِمَّا وَقَعَ التَّفْريطُ فيه؛ مثل المظالم للقادر على ردِّها، وقال ابن المبارك: "حقيقةُ التوبة لها سِتُّ علاماتٍ: الندم على ما مَضَى، والعزم على أن لا يعود، ويؤدي كلَّ فرض ضيَّعه، ويؤدي إلى كُلِّ ذي حقٍّ حقَّه من المظالم، ويُذِيبُ البَدَنَ الذي زيَّنه بالسُّحت والحرام بالهُموم والأحزان حتَّى يلصق الجلد بالعظم ثم ينشَأ بيْنَهُما لحمًا طيِّبًا إن هو نشأ، ويُذِيق البَدَنَ ألَمَ الطاعة كما أذاقه لذَّة المعصية".
قال ابن القيم في (مدارج السالكين): "فالتوبة في كلام الله ورسولِه تتضمَّنُ العزمَ على فِعْلِ المأمور والتزامِه، فلا يكون بِمُجرَّد الإقلاع والعَزْم والنَّدم تائبًا حتَّى يُوجَدَ منْهُ العَزْمُ الجازم على فِعْلِ المأمور والإتيان به، هذا حقيقةُ التوبة وهِي اسمٌ لِمجموع الأَمْرَيْنِ، وهي كلفْظَةِ التقوى التي تقتضي عند إفرادها فعلَ ما أمرَ الله به وتركَ ما نَهى الله عنه، وتقتضي عند اقترانِها بِفِعْلِ المأمور الانتهاءَ عن المَحظورِ؛ فإنَّ حقيقة التوبة الرجوعُ إلى الله بالتزام فعل ما يُحِبُّ وتَرْكِ ما يَكْرَهُ؛ فالرُّجوعُ إلى المَحبوب جزءُ مُسمَّاها والرُّجوع عنِ المكروه الجُزْءُ الآخَر، ولِهذا علَّق سبحانه الفلاحَ المُطْلَق على فِعْلِ المأمور وترْكِ المَحظور بِها؛ فقال: "{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}" [النُّور: 31]، فَكُلُّ تائبٍ مُفْلِحٌ ولا يكونُ مُفْلِحًا إلا مَنْ فَعَلَ ما أُمِرَ به وتَرَكَ ما نُهِيَ عنه، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، وتارك المأمور ظالمٌ كما أنَّ فاعلَ المحظور ظالم، وزوالُ اسْمِ الظُّلم عنْهُ إنَّما يكونُ بالتَّوبة الجامعة للأمْرَيْنِ.
فإذًا التوبةُ هي حقيقةُ دين الإسلام، والدِّينُ كلُّه داخلٌ في مُسمَّى التَّوبة، وبِهذا استحقَّ التَّائبُ أن يكونَ حبيبَ اللَّه؛ فإنَّ الله يُحِبُّ التَّوابين ويُحب المتطهِّرين، ويدخل في مُسمَّاها الإسلامُ والإيمان والإحسان، وتتناول جَميعَ المقامات، ولهذا كانت غايةَ كلِّ مُؤمن وبدايةَ الأمر وخاتمتَه، وهي الغايةُ التي وجد لأجلها الخَلْقُ والأمر، والتَّوحيد جزء منها بل هو جُزْؤُها الأعظمُ الذي عليه بناؤُها، ولم يَجعلِ الله تعالَى محبَّته للتَّوَّابين إلا وهُم خواصُّ الخَلْقِ لدَيْهِ" اهـ مختصرًا